فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{ويقولون}
من فرط عتوهم ونفورهم {متى هذا الوعد} أي الحشر الموعود كما ينبئ عنه قوله تعالى: {وإليه تحشرون} [الملك: 24] {إِن كُنتُمْ صادقين} يخاطبون به النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين حيث كانوا مشاركين له عليه الصلاة والسلام في الوعد وتلاوة الآيات المتضمنة له وجواب الشرط محذوف أي إن كنتم صادقين فيما تخبرونه من مجيء الساعة والحشر فبينوا وقته.
{قُلْ إِنّما العلم} أي العلم بوقته {عند الله} عز وجل لا يطلع عليه غيره عز وجل كقوله تعالى: {قل إنما علمها عند ربي} [الأعراف: 187] {وإِنّما أناْ نذِيرٌ مُّبِينٌ} أنذركم وقوع الموعود لا محالة وأما العلم بوقت وقوعه فليس من وظائف الإنذار والفاء في قوله تعالى: {فلمّا رأوْهُ} فصيحة معربة عن تقدير جملتين وترتيب الشرطية عليهما كأنه قيل وقد أتاهم الموعود فرأواه فلما رأوه إلخ وهذا نظير قوله تعالى: {فلما رآه مستقرا عنده} [النمل: 4] إلا أن المقدر هناك أمر واقع مرتب على ما قبله بالفاء وهاهنا أمر منزل منزلة لواقع وارد على طريقة الاستئناف وقوله تعالى: {زُلْفة} حال من مفعول رأوه اما بتقدير المضاف أي ذا زلفة وقرب أو على أنه مصدر بمعنى الفاعل أي مزدلفا أو على أنه مصدر نعت به مبالغة أو ظرف أي رأوه في مكان ذي زلفة وفسر بعضهم الزلفة بالقريب والأمر عليه ظاهر وكذا على ما روى عن ابن زيد من تفسيره بالحاضر.
وقال الراغب الزلفة المنزلة والحظوة وما في الآية قيل معناه زلفة المؤمنين وقيل زلفة لهم واستعمل الزلفة في منزلة العذاب كما استعملت البشارة ونحوها من الألفاظ انتهى ولا زلفة في كلا القولين {سِيئتْ وُجُوهُ الذين كفرُواْ} سامتها رؤيته بأن غشيتها بسببها الكآبة ورهقها القتر والذلة ووضع الموصول موضع ضميرهم لذمهم بالكفر وتعليل المساءة به.
وأشم أبو جعفر والحسن وأبو رجاء وشيبة وابن وثاب وطلحة وابن عامر ونافع والكسائي كسر سين سيئت الضم {وقِيل} توبيخا لهم وتشديد العذاب بهم {هذا الذي كُنتُم بِهِ تدّعُون} أي تطلبونه في الدنيا وتستعجلونه إنكارا واستهزاء على أنه تفتعلون من الدعاء والباء صلة الفعل وقيل هو من الدعوى أي تدعون أن لا بعث ولا حشر فالباء سبية أو للملابسة باعتبار الذكر وأيد التفسير الأول بقراءة أبي رجاء والضحاك والحسن وقتادة وابن يسار وعبد الله بن مسلم وسلام ويعقوب {تدعون} بسكون الدال وهي قراءة ابن أبي عبلة وأبي زيد وعصمة عن أبي بكر والأصمعي عن نافع وذكر الزمخشري في سورة المعارج {إن يدعون} مخففا من قولهم دعا بكذا إذا استدعاه وعن الفراء أنه من دعوت أدعو والمعنى هذا الذي كنتم به تستعجلون وتدعون الله تعالى بتعجيله يعني قولهم {إن كان هذا هو الحق من عندك} [الأنفال: 32] الخ.
وروى عن مجاهد أن الموعود عذاب يوم بدر.
وهو بعيد.
وأما ما قيل من أن الموعود الخسف والحاصب وقد وقعا لأن المراد بالخسف الذي كما في قوله:
ولا يقيم على خسف يراد به ** إلا الأذلان عير الحي والوتد

وبالحاصب الحصي وقد رمى صلى الله عليه وسلم به في وجوههم كما في الخبر المشهور أو لم يقعا بناء على ما عرف أولا من المراد بهما ولا يضر ذلك إذ تخلف الوعيد لا ضير فيه فليس بشيء كما لا يخفى وكان كفار مكة يدعون على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين بالهلاك فقال سبحانه له عليه الصلاة والسلام.
{قُلْ أرءيْتُمْ} أي أروني كما هو المشهور وقد مر تحقيقه {إِنْ أهْلكنِى الله ومن مّعِى} أي من المؤمنين {أوْ رحِمنا} أي بالنصرة عليكم {فمن يُجِيرُ الكافرين مِنْ عذابٍ ألِيمٍ} أي فمن يجيركم من عذاب النار وأقيم الظاهر مقام المضمر المخاطب دلالة على أن موجب البوار محقق فأني لهم الإجارة والظاهر أن جواب الشرط والمعطوف عليه شيء واحد وحاصل المعنى لا مجير لكم من عذاب النار لكفركم الموجب له انقلبنا إلى رحمة الله تعالى بالهلاك كما تمنون لأن فيه الفوز بنعيم الآخرة أو بالنصرة عليكم والأدلة للإسلام كما نرجو لأن في ذلك الظفر بالبغيتين ويتضمن ذلك حثهم على طلب الخلاص بالايمان وأن فيما هم فيه شغلا شاغلا عن تمني هلاك النبي عليه الصلاة والسلام ومن معه من المؤمنين وهذا أوجه أوجه ثلاثة ذكرها الزمخشري ثانيها أن المعنى إن أهلكنا الله تعالى بالموت ونحن هداتكم والآخذون بحجزكم فمن يجيركم من النار وإن رحمنا بالغلبة عليكم وقتلكم عكس ما تمنون فمن يجيركم لأن المقتول على أيدينا هالك في الدنيا والآخرة وعلى هذا الجواب متعدد لتعدد موجبه ورجح الأول بأن فيه تسفيها لرأيهم لطلبهم ما هو سعادة أعدائهم ثم الحث على ما هو أحرى وهو الخلاص مما هم فيه من موجب الهلاك وهذا فيه الأول من حيث أنهم لم يتمنون هلاك من يجيرهم من العذاب بإرشاده والسياق ادعى للأول وثالثها أن المعنى إن أهلكنا الله تعالى في الآخرة بذنوبنا ونحن مسلمون فمن يجير الكافرين وهم أولى بالهلاك لكفرهم وإن رحمنا بالايمان فمن يجير من لا إيمان له وعلى هذا الجواب متعدد أيضا والهلاك فيه محمول على المجاز دون الحقيقة كما في سابقه والغرض الجزم بأنهم لا مجير لهم وإن حالهم إذا ترددت بين الهلاك بالذنب والرحمة بالايمان وهم مؤمنون فما ذا يكون حال من لا إيمان له وهذا فيه بعد.
{قُلْ} أي لهم جوابا عن تمنيهم ما لا يجديهم بل يرديهم معرضا بسوء ما هم عليه {هُو الرحمن} أي الله الرحمن {بِهِ إِنّهُ} أي فيجيرنا برحمته عز وجل من عذاب الآخرة ولم نكفر مثلكم حتى لانجار البتة ولما جعل الكفر سبب الإساءة في الآية الأولى جعل الايمان سبب الإجارة في هذه ليتم التقابل ويقع التعريض موقعه ولم يقدم مفعول آمنا لأنه لو قيل به آمنا كان ذهابا إلى التعريض بإيمانهم بالأصنام وكان خروجا عما سيق له الكلام وحسن التقديم في قوله تعالى: {وعليْهِ توكّلْنا} لاقتضاء التعريض بهم في أمر التوكل ذلك أي وعليه توكلنا ونعم الوكيل فنصرنا لا على العدد والعدد كما أنتم عليه والحاصل أنه لما ذكر فيما قبل الإهلاك والرحمة وفسر برحمة الدنيا والآخرة أكد هاهنا بحصولها لهم في الدارين لايمانهم وتوكلهم عليه تعالى خاصة وفي ذلك تحقيق عدم حصولها للكافرين لانتفاء الموجبين ثم في الآية خاتمة على منوال السابقة وتبيين أن أحسن العمل الايمان والتوكل على الله تعالى وحده وهو حقيقة التقوى وقوله تعالى: {فستعْلمُون منْ هُو في ضلال مُّبِينٍ} أي في الدارين وعيد بعد تلخيص الموجب لكنه أخرج مخرج الكلام المنصف أي من هو منا ومنكم في إلخ وقرأ الكسائي {فسيعلمون} بياء الغيبة نظرا إلى قوله تعالى: {فمن يجير الكافرين} [الملك: 28] وقوله سبحانه: {قُلْ أرءيْتُمْ} أي أخبروني {إِنْ أصْبح ماؤُكُمْ غوْرا} أي غائرا ذاهبا في الأرض بالكلية وعن الكلبي لا تناله الدلاء وهو مصدر وصف به للمبالغة أو مؤل باسم الفاعل وأيا ما كان فليس المراد بالماء ماء معينا وإن كانت الآية كما روى ابن المنذر والفاكهي عن ابن الكلبي نازلة في بئر زمزم وبئر ميمون بن الحضرمي {فمن يأْتِيكُمْ بِماء مّعِينٍ} أي جار أو ظاهر سهل المأخذ لوصول الأيدي إليه وهو فعيل من معن أو مفعول من عين وعيد في الدنيا خاصة واردف الوعيد السابق به تنبيها بالأدنى على الأعلى وإنكم إذا لم تعبدوه عز وجل للحياة الباقية فاعبدوه للفانية وتليت هذه الآية عند بعض المستهزئين فلما سمع فمن يأتيكم إلخ قال تجيء به الفؤس والمعاول فذهب ماء عينيه نعوذ بالله تعالى من الجراءة على الله جل جلاله وآياته وتفسير الآيات على هذا الطرز هو ما اختاره بعض الأئمة وهو أبعد مغزى من غيره والله تعالى أعلم بأسرار كلامه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{ويقولون متى هذا الْوعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِين (25)}
لما لم تكن لهم معارضة للحجة التي في قوله: {هو الذي أنشأكم} [الملك: 23] إلى {هو الذي ذرأكم في الأرض} [الملك: 24] انحصر عنادهم في مضمون قوله: {وإليه تحشرون} [الملك: 24] فإنهم قد جحدوا البعث وأعلنوا بجحده وتعجبوا من إنذار القرآن به، وقال بعضهم لبعض {هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد أفترى على الله كذبا أم به جِنة} [سبأ: 78] وكانوا يقولون: {متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} [سبأ: 29] واستمروا على قوله، فلذلك حكاه الله عنهم بصيغة المضارع المقتضية للتكرير.
و{الوعد} مصدر بمعنى اسم المفعول، أي متى هذا الوعد فيجوز أن يراد به الحشر المستفاد من قوله: {وإليه تحشرون} [الملك: 24] فالإشارة إليه بقوله: {هذا} ظاهرة، ويجوز أن يراد به وعد آخر بنصر المسلمين، فالإشارة إلى وعيد سمعوه.
والاستفهام بقولهم: {متى هذا الوعد} مستعمل في التهكم لأن من عادتهم أن يستهزئوا بذلك قال تعالى: {فسيقولون من يُعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو} [الإسراء: 51]
وأتوا بلفظ {الوعد} استنجازا له لأن شأن الوعد الوفاء.
وضمير الخطاب في: {إن كنتم صادقين} للنبيء صلى الله عليه وسلم والمسلمين لأنهم يلهجون بإنذارهم بيوم الحشر، وتقدم نظيره في سورة سبأ.
وأمر الله رسوله بأن يجيب سؤالهم بجملة على خلاف مرادهم بل على ظاهر الاستفهام عن وقت الوعد على طريقة الأسلوب الحكيم، بأن وقت هذا الوعد لا يعلمه إلاّ الله، فقوله: {قل} هنا أمر بقول يختص بجواب كلامهم وفصل دون عطف بجريان المقول في سياق المحاورة، ولم يعطف فعل {قل} بالفاء جريا على سنن أمثاله الواقعة في المجاوبة والمحاورة، كما تقدم في نظائره الكثيرة وتقدم عند قوله تعالى: {قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها} في سورة البقرة (30).
ولام التعريف في العلم للعهد، أي العلم بوقت هذا الوعد.
وهذه هي اللام التي تسمى عوضا عن المضاف إليه، وهذا قصر حقيقي.
{وإنما أنا نذير مبين} قصر إضافي، أي ما أنا إلاّ نذير بوقوع هذا الوعد لا أتجاوز ذلك إلى كوني عالما بوقته.
والمبين: اسم فاعل من أبان المتعدي، أي مبين لما أمرت بتبليغه.
{فلمّا رأوْهُ زُلْفة سِيئتْ وُجُوهُ الّذِين كفرُوا وقِيل هذا الّذِي كُنْتُمْ بِهِ تدّعُون (27)}
(لما) حرف توقيت، أي سيئت وجوههم في وقت رؤيتهم الوعد.
والفاء فصيحة لأنها اقتضت جملة محذوفة تقديرها: فحل بهم الوعد فلما رأوهُ الخ، أي رأوا الموعود به.
وفعل {رأوه} مستعمل في المستقبل، وجيء به بصيغة الماضي لشبهه بالماضي في تحقق الوقوع مثل {أتى أمر الله} [النحل: 1] لأنه صادر عمن لا إخلاف في أخباره فإن هذا الوعد لم يكن قد حصل حين نزول الآية بمكة سواء أريد بالوعد الوعد بالبعث كما هو مقتضى السياق أم أريد به وعد النصر، بقرينة قوله: {ويقولون متى هذا الوعد} [الملك: 25] فإنه يقتضي أنهم يقولونه في الحال وأن الوعد غير حاصل حين قولهم لأنهم يسألون عنه بـ {متى}.
ونظير هذا الاستعمال قوله تعالى: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} في سورة النساء (41) وقوله تعالى: {ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء} في سورة النحل (89) إذ جمع في الآيتين بين فعل {نبعث} مضارعا وفعل {جئنا} ماضيا.
وأصل المعنى: فإذا يرونه تساء وجوه الذين كفروا الخ، فعدل عن ذلك إلى صوغ الوعيد في صورة الإخبار عن أمر وقع فجيء بالأفعال الماضية.
وضمير {رأوه} عائد إلى {الوعد} [الملك: 25] بمعنى: رأوا الموعود به.
والزُلفة بضم الزاي: اسم مصدر زلف إذا قرب وهو من باب تعب.
وهذا إخبار بالمصدر للمبالغة، أي رأوه شديد القرب منهم، أي أخذ ينالهم.
و{سيئت} بني للنائب، أي ساء وجوههم ذلك الوعد بمعنى الموعود.
وأسند حصول السوء إلى الوجوه لتضمينه معنى كلحتْ، أي لأنه سوء شديد تظهر آثار الانفعال منه على الوجوه، كما أسند الخوف إلى الأعين في قول الأعشى:
وأقدِم إذا ما أعيُن الناس تفْرقُ

{وقيل} أي لهم.
و{تدّعون} بتشديد الدال مضارع ادّعى.
وقد حذف مفعوله لظهوره من قوله: {ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} [الملك: 25]، أي تدّعون أنه لا يكون.
و{به} متعلق بـ {تدعون} لأنه ضمّن معنى {تكذّبون} فإنه إذا ضمّن عامل معنى عامل آخر يحذف معمول العامل المذكور ويذكر معمول ضمنه ليدل المذكور على المحذوف.
وذلك ضرب من الإيجاز.
وتقديم المجرور على العامل للاهتمام بإخطاره وللرعاية على الفاصلة.
والقائل لهم {هذا الذي كنتم به تدّعون} ملائكة المحشر أو خزنة جهنم، فعدل عن تعيين القائل، إذ المقصود المقول دون القائل فحذْف القائل من الإِيجاز.
والقصر المستفاد من تعريف جزأي الإسناد تعريضٌ بهم بأنهم من شدة جحودهم بمنزلة من إذا رأوا الوعد حسبوه شيئا آخر على نحو قوله تعالى: {فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا} [الأحقاف: 24].
وقرأ الجمهور {سِيئت} بكسرة السين خالصة، وقرأه ابن عامر والكسائي بإشمام الكسرة ضمة، وهما لغتان في فاء كل ثلاثي معتل العين إذا بُني للمجهول.
وقرأ الجمهور {تدّعون} بفتح الدال المشددة وقرأه يعقوب بسكون الدال من الدعاء، أي الذي كنتم تدعون الله أن يصيبكم به تهكما وعنادا كما قالوا {فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} [الأنفال: 32].
{قُلْ أرأيْتُمْ إِنْ أهْلكنِي اللّهُ ومنْ معِي أوْ رحِمنا فمنْ يُجِيرُ الْكافِرِين مِنْ عذابٍ ألِيمٍ (28)}
هذا تكرير ثان لفعل {قل هو الذي أنشأكم} [الملك: 23].
كان من بذاءة المشركين أن يجهروا بتمني هلاك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهلاك من معه من المسلمين، وقد حكى القرآن عنهم {أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون} [الطور: 30] وحكى عن بعضهم {ويتربص بكم الدوائر} [التوبة: 98]، وكانوا يتآمرون على قتله، قال تعالى: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليُثبتوك أو يقتلوك} [الأنفال: 30]، فأمره الله بأن يعرفهم حقيقة تدحض أمانيّهم، وهي أن موت أحد أو حياته لا يغني عن غيره ما جره إليه عمله، وقد جرّت إليهم أعمالهم غضب الله ووعيده فهو نائلهم حيي الرسول صلى الله عليه وسلم أو بادره المنون، قال تعالى: {فإمّا نذهبنّ بك فإنّا منهم منتقمون أو نُرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون} [الزخرف: 41، 42] وقال: {وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مِتّ فهُم الخالدون} [الأنبياء: 34] وقال: {إنك ميت وإنهم ميتون} [الزمر: 30] أي المشركين، وقد تكرر هذا المعنى وما يقاربه في القرآن، وينسب إلى الشافعي:
تمنّى رجال أن أموت فإنْ أمت ** فتلك سبيل لستُ فيها بأوْحدِ

فقد يكون نزول هذه الآيات السابقة صادف مقالة من مقالاتهم هذه فنزلت الآية في أثنائها وقد يكون نزولها لمناسبة حكاية قولهم: {متى هذا الوعد} [الملك: 25] بأن قارنه كلام بذيء مثل أن يقولوا: أبعْد هلاكك يأتي الوعْد.
والإهلاك: الإِماتة، ومقابلةُ {أهلكني} بـ {رحِمنا} يدل على أن المراد: أو رحمنا بالحياة، فيفيد أن الحياة رحمة، وأن تأخير الأجل من النعم، وإنما لم يؤخر الله أجل نبيئه صلى الله عليه وسلم مع أنه أشرف الرسل لحِكم أرادها كما دلّ عليه قوله: «حياتي خيرٌ لكم وموْتي خيرٌ لكم»، ولعلّ حكمة ذلك أن الله أكمل الدين الذي أراد إبلاغه فكان إكماله يوم الحج الأكبر من سنة ثلاث وعشرين من البعثة، وكان استمرار نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم خصِّيصية خصّه الله بها من بين الأنبياء، فلما أتم الله دينه ربا برسوله صلى الله عليه وسلم أن يبقى غير متصل بنزول الوحي فنقله الله إلى الاتصال بالرفيق الأعلى مباشرة بلا واسطة، وقد أشارت إلى هذا سورة {إذا جاء نصر الله} من قوله: {ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره} [النصر: 13].
ولله در عبد بني الحسحاس في عبرته بقوله:
رأيت لمنايا لم يدعْن محمدا ** ولا باقيا إلاّ لهْ الموتُ مُرْصدا

وقد عوضه الله تعالى بحياة أعلى وأجل، إذ قال: {ورفعنا لك ذكرك} [الشرح: 4]، وبالحياة الأبدية العاجلة وهي أنه يرُدُّ عليه روحه الزكية كلّما سلّم عليه أحد فيردّ عليه السلام كما ثبت بالحديث الصحيح.
وإنما سمّى الحياة رحمة له ولمن معه، لأن في حياته نعمة له وللناس ما دام الله مقدرا حياته، وحياة المؤمن رحمة لأنه تكثر له فيها بركة الإِيمان والأعمال الصالحة.
والاستفهام في {أرأيتم} إنكاري أنكر اندفاعهم إلى أمنيات ورغائب لا يجتنون منها نفعا ولكنها مما تمليه عليهم النفوس الخبيثة من الحقد والحسد.
والرؤية علمية، وفعلها معلق عن العمل فلذلك لم يرد بعْده مفعولاه، وهو معلق بالاستفهام الذي في جملة جواب الشرط، فتقدير الكلام: أرأيتم أنفسكم ناجين من عذاب أليم إن هلكتُ وهلك من معي، فهلاكنا لا يدفع عنكم العذاب المُعدّ للكافرين.
وأُقحم الشرط بين فعل الرؤية وما سدّ مسد مفعوليه.
والفاء في قوله: {فمن يأتيكم} [الملك: 30] رابطة لجواب الشرط لأنه لما وقع بعد ما أصلُه المبتدأ والخبرُ وهو المفعولان المقدّران رُجّح جانب الشرط.
والمعية في قوله: {ومن معي} معية مجازية، وهي الموافقة والمشاركة في الاعتقاد والدين، كما في قوله تعالى: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار} [الفتح: 29] الآية، أي الذين آمنوا معه، وقوله: {والذين ءامنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم} [التحريم: 8] كما أطلقت على الموافقة في الرأي والفهم في قول أبي هريرة: (أنا مع ابن أخي)، يعني موافق لأبي سلمة بن عبد الرحمان، وذلك حين اختلف أبو سلمة وابن عباس في المتوفّى عنها الحامل إذا وضعتْ حملها قبل مضي عدة الوفاة.
والاستفهام بقوله: {فمن يجير الكافرين} إلخ إنكاري، أي لا يجيرهم منه مجير، أي أظننتم أن تجدوا مجيرا لكم إذا هلكنا فذلك متعذر فماذا ينفعكم هلاكنا.
والعذاب المذكور هنا ما عبّر عنه بالوعد في الآية قبلها.
وتنكير {عذاب} للتهويل.
والمراد بـ {الكافرين} جميع الكافرين فيشمل المخاطبين.
والكلام بمنزلة التذييل، وفيه حذف، تقديره: من يجيركم من عذاب فإنكم كافرون ولا مجير للكافرين.
وذُكر وصف {الكافرين} لما فيه من الإيماء إلى علة الحكم لأنه وصف إذا علق به حكم أفاد تعليل ما منه اشتقاق الوصف.
وقرأ الجمهور بفتحة على ياء {أهلكني}، وقرأها حمزة بإسكان الياء.
وقرأ الجمهور ياء {معي} بفتحة.
وقرأها أبو بكر عن عاصم وحمزة والكسائي بسكون الياء.
{قُلْ هُو الرّحْمنُ آمنّا بِهِ وعليْهِ توكّلْنا فستعْلمُون منْ هُو فِي ضلالٍ مُبِينٍ (29)}
هذا تكرير ثالث لفعل {قل} من قوله: {قل هو الذي أنشأكم} [الملك: 23] الآية.
وجاء هذا الأمر بقول يقوله لهم بمناسبة قوله: {أو رحمنا} [الملك: 28] فإنه بعد أن سوّى بين فرض إهلاك المسلمين وإحيائهم في أن أيّ الحالين فُرض لا يجيرهم معه أحد من العذاب، أعقبه بأن المسلمين آمنوا بالرحمان، فهم مظنة أن تتعلق بهم هذه الصفة فيرحمهم الله في الدنيا والآخرة، فيعلم المشركون علم اليقين أيّ الفريقين في ضلال حين يرون أثر الرحمة على المسلمين وانتفاءه عن المشركين في الدنيا وخاصة في الآخرة.
وضميرُ {هو} عائد إلى الله تعالى الواقع في الجملة قبله، أي الله هو الذي وصْفُه {الرحمان} فهو يرحمنا، وأنكم أنكرتم هذا الاسم فأنتم أحرياء بأن تُحرموا آثار رحمته.
ونحن توكلنا عليه دون غيره وأنتم غرّكم عزّكم وجعلتم الأصنام معتمدكم ووكلاءكم.
وبهذه التوطئة يقع الإيماء إلى الجانب المهتدي والجانب الضالّ من قوله: {فستعلمون من هو في ضلال مبين} لأنه يظهر بداء تأمل أن الذين في ضلال مبين هم الذين جحدوا وصف {الرحمان} وتوكلوا على الأوثان.
و{من} موصولة، وما صْدقُ {من} فريق مُبهم متردد بين فريقين تضمنهما قوله: {إن أهلكني الله ومن معي} [الملك: 28] وقوله: {فمن يجير الكافرين} [الملك: 28]، فأحد الفريقين فريق النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، والآخر فريق الكافرين، أي فستعلمون اتضاح الفريق الذي هو في ضلال مبين.
وتقديم معمول {توكلنا} عليه لإفادة الاختصاص، أي توكلنا عليه دون غيره تعريضا بمخالفة حال المشركين إذ توكلوا على أصنامهم وأشركوها في التوكل مع الله، أو نسُوا التوكل على الله باشتغال فكرتهم بالتوجه إلى الْاصنام.
وإنما لم يقدم معمول {آمنّا} عليه فلم يقل: به آمنا لمُجرد الاهتمام إلى الإِخبار عن إيمانهم بالله لوقوعه عقب وصف الآخرين بالكفر في قوله: {فمن يجير الكافرين من عذاب أليم} [الملك: 28] فإن هذا جواب آخر عن تمنّيهم له الهلاك سُلك به طريق التبكيت، أي هو الرحمان يجيرنا من سوء ترومونه لنا لأننا آمنا به ولم نكْفر به كما كفرتم، فلم يكن المقصود في إيراده نفي الإِشراك وإثبات التوحيد، إذ الكلام في الإِهلاك والإنجاء المعبّر عنه بـ {رحِمنا} [الملك: 28] فجيء بجملة {ءامنا} على أصل مجرد معناها دون قصد الاختصاص، بخلاف قوله: {وعليه توكلنا} لأن التوكل يقتضي منجيا وناصرا، والمشركون متوكلون على أصنامهم وقوتهم وأموالهم، فقيل: نحن لا نتكل على ما أنتم متكلون عليه، بل على الرحمان وحده توكلنا.
وفعل {فستعلمون} معلق عن العمل لمجيء الاستفهام بعده.
وقرأ الجمهور {فستعلمون} بتاء الخطاب على أنه مما أمر بقوله الرسول صلى الله عليه وسلم وقرأه الكسائي بياء الغائب على أن يكون إخبارا من الله لرسوله بأنه سيعاقبهم عقاب الضالّين.
{قُلْ أرأيْتُمْ إِنْ أصْبح ماؤُكُمْ غوْرا فمنْ يأْتِيكُمْ بِماءٍ معِينٍ (30)}
إيماءٌ إلى أنهم يترقبهم عذاب الجوع بالقحط والجفاف فإن مكة قليلة المياه ولم تكن بها عيون ولا آبار قبل زمزم، كما دل عليه خبر تعجب القافلة مِن (جُرْهم) التي مرّت بموضع مكة حين أسكنها إبراهيم عليه السلام هاجر بابنه إسماعيل ففجّر الله لها زمزم ولمحتْ القافلة الطير تحوم حول مكانها فقالوا: ما عهدنا بهذه الأرض ماء، ثم حفر ميمون بن خالد الحضرمي بأعلاها بئرا تسمى بئر ميمون في عهد الجاهلية قُبيل البعثة، وكانت بها بئر أخرى تسمى الجفْر (بالجيم) لبني تيم بن مُرة، وبئر تسمى الجم ذكرها ابن عطية وأهملها (القاموس) و(تاجه)، ولعل هاتين البئرين الأخيرتين لم تكونا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فماء هذه الآبار هو الماء الذي أُنذروا بأنه يصبح غورا، وهذا الإِنذار نظير الواقع في سورة القلم (17 33) {إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة} إلى قوله: {لو كانوا يعلمون}.!
والغور: مصدر غارتْ البئر، إذا نزح ماؤها فلم تنله الدلاء.
والمراد: ماء البئر كما في قوله: {أو يصبح ماؤها غورا} في ذكر جنة سورة الكهف (41).
وأصل الغور: ذهاب الماء في الأرض، مصدر غار الماء إذا ذهب في الأرض، والإِخبار به عن الماء من باب الوصف بالمصدر للمبالغة مثل: عدل ورِضى.
والمعين: الظاهر على وجه الأرض، والبئر المعينة: القريبة الماء على وجه التشبه.
والاستفهام في قوله: {فمن يأتيكم بماء} استفهام إنكاري، أي لا يأتيكم أحد بماء معِين: أي غير الله واكتفي عن ذكره لظهوره من سياق الكلام ومن قوله قبله {أمّن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمان} [الملك: 20] الآيتين.
وقد أصيبوا بقحط شديد بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهو المشار إليه في سورة الدخان.
ومن المعلوم أن انحباس المطر يتبعه غور مياه الآبار لأن استمدادها من الماء النازل على الأرض، قال تعالى: {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض} [الزمر: 21] وقال: {وإنّ من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإنّ منها لما يشّقّق فيخرج منه الماء} [البقرة: 74].
ومن النوادر المتعلقة بهذه الآية ما أشار إليه في (الكشاف) مع ما نقل عنه في (بيانه)، قال: وعن بعض الشُطّار (هو محمد بن زكرياء الطبيب كما بينه المصنف فيما نقل عنه) أنها (أي هذه الآية) تُليت عنده فقال: تجيء به (أي الماء) الفُؤوس والمعاول، فذهب ماء عينيه.
نعوذ بالله من الجرأة على الله وعلى آياته.
والله أعلم. اهـ.